تحميل إغلاق

حجر

ليس المقال ليسخر من النائب محمد الجبري الذي عانى ما عانى من تعليقات وسخرية في الأيام القليلة الماضية على إثر تصريحه الذي أحيا فيه جلال الدين الرومي واشتط غضباً لمنعه من دخول الكويت. هذا الخطأ وارد، أن يجهل أحدنا شخصاً مشهوراً أو شخصية تاريخية هي ليست بنكبة، ولكن عندما يكون أحدنا هذا نائباً في مجلس الأمة، وعندما يكون أحدنا الآخر عدداً من الوزراء ادعى أحدنا الأول (النائب) أنه خاطبهم بهذا الخصوص، ولم يتبين لأي من “الأحدات” هذه من هي شخصية جلال الدين الرومي، فتلك بلا شك نكبة.

والنكبة هنا لها ثلاثة خيوط، أولها أن للنائب والوزراء جيشا جرارا من سكرتارية وإعلاميين، كان بالإمكان قبل إطلاق التصريح أن يتمهل “أحد الأحدات” ويطلب بحثاً موجزاً عن الشخصية المذكورة، هذه المهمة منوطة أولاً بالنائب الذي كان بإمكانه أن يؤجل غضبته على الدين والأخلاق دقيقتين ويطبع اسم جلال الرومي على غوغل ويتبين قبل أن يضع نفسه في هذا المأزق السخيف. هذا يجرنا للخيط الثاني، حيث إن اسم الشخصية مسبوقة “بمولانا” توحي بطائفة معينة كانت على ما يبدو كافية لإثارة غيرة النائب، أي أن هذا الخيط معقود وملفوف بطائفية بغيضة كما بدا لي هي ما أثارت غيرة النائب على الدين والأخلاق كما تبين من تصريحه.  أما ثالث الخيوط وأكثرها خطورة في رأيي، وهي خطورة تتعدى الإهمال والطائفية بمراحل، فهو خيط الجهل المركب في مسؤولينا. سبق أن أعربت عن إعجابي بالنظام الصيني القديم والذي لا تزال آثاره ظاهرة للعيان، فالموظف الحكومي أو الناشط السياسي في تاريخ الصين القديم كان لابد له أن يكون عميق الثقافة شديد التبحر في الفن والأدب والتاريخ والفلسفة، فمن طرف تساعده هذه الثقافة على تفهم البشر حوله ومن طرف آخر توسع هذه الثقافة آفاقه وتجعله أقل عصبية وتطرفا، وتلك صفات مطلوبة بلا شك فيمن يقود ويقنن لبلده ومجتمعه.

في بلدنا، شرط الموظف الحكومي رفيع المستوى والناشط السياسي خطير المحتوى أن يقرأ ويكتب، والأهم أن يكون يعرف “الناس الصح”، أما أن يجهل جلال الدين الرومي أو أن لا يعرف شيئاً عن أحمد شوقي أو أن لا يكون قد سمع قط اسم أفلاطون أو أرسطو، فتلك نواقص جانبية، ولربما هي في الواقع مزايا تخلي في العقل مساحة للمزيد من التعنصر والطائفية وتفرش في النفس وسائد السمع والطاعة، وتفسح في القلب مكاناً للأقربين الأولى بالمعروف، ولتذهب مبادئ القيم الإنسانية والديمقراطية والمدنية الحديثة إلى غياهب الجحيم.

لهذا نحن نعاني، نعم حكومات باردة ومشاريع فاسدة وأموال سائبة، نعم مجالس خربة ونواب متعنصرون وتقنين متطرف، إلا أن هذا كله لا يتأتى سوى من بنية نفسية ركيكة، حرمت الفن والثقافة، ومنعت من كل ما يرقق القلب ويطهر النفس ويربط البشر ببعضهم بعضا. الموسيقى والفن لغات عالمية، لا تحتاج الألمانية لتفهم موسيقى بيتهوفن مثلاً، ولا تحتاج الإسبانية لتستمتع بلوحة لبيكاسو، وعندما تعيش في مجتمع يتأفف من هذه الفنون، نوابه يحاربونها وحكوماته تتجنبها، فأنت تعيش في مجتمع لا يتحاور بلغات عالمية، لا يريد أن يعرف الآخر المختلف ولا يرغب في مد جسور الوصال البشرية. أنت تعيش منغلقاً متقوقعاً، مع عاداتك وتقاليدك ولغتك وعقيدتك ومفاهيمك وأهلك وبيت الجيران، ومن يدخل حينا “نطخه”، حتى لو كان جلال الدين الرومي، الذي فارق هذه الدنيا منذ ما يزيد على سبعمئة سنة.

نعم، غياب الفن والثقافة هو سبب رئيس في فساد النفوس وفساد الأخلاق وبالتالي فساد السياسة والإدارة. لكي تصبح إدارياً ناجحاً وسياسياً صالحاً يجب أولاً أن تفهم الناس، وثانياً أن تقرأ المستقبل البعيد وليس القريب فقط، وتعرف كيف تجد نفسك فيه وكيف تتشابك مصالحك في أيامه مع مصالح غيرك، يجب أن تحسن الوصال وترقق النفس وتقبل الناس وتحترم اختلافها. دون كل ذلك أنت حجر سيصطدم بك من يتعامل معك، يكسرك أو يتكسر عند حوافك، فتخسر نفسك أو تخسره ولا يتغير شيء، في مكانك سر، وهو وضعنا منذ عشرات السنوات وإلى الآن.

 الموضوع أخطر من مزحة نائب يجهل جلال الدين الرومي، الموضوع موضوع أجيال مثلها لنا هذا النائب بضياعها وانغلاقها وتحجر فكرها، وهذه بالتأكيد ليست مزحة، وهي بكل تأكيد تستدعي رد فعل آخر أبعد ما يكون عن الضحك.

«آخر شي»:

يقال إن وزارتي الداخلية والإعلام انتصرتا للنائب الجبري ضد “مولانا” ابن الرومي فمنعتا الأمسية، طبعاً، أكيد الوزارتان اكتشفتا وفاة الرجل قبل المنع، وأكيد لشعره وتصوفه يد في هذا المنع. الموضوع مثل الدجاجة والبيضة، الانغلاق يدفع لهذا المنع أم المنع يتسبب في هذا الانغلاق؟ في كلتا الحالتين، انتصر ابن الجبري على ابن الرومي، فهنيئاً لنا سيفه البتار في محاربة الأشرار… المتوفين منذ أكثر من سبعمئة سنة.

اترك تعليقاً