تحميل إغلاق

بيوت من زجاج

بيوت من زجاج

تبقى السخرية بلا شك أداة والاستهزاء رأيا بل نشر للمعلومات إن كانت حقيقية، وهي حق للناشر إلا أنها أبغض الحريات، لأننا كبشر متحضرين لربما يجب أن نفكر كثيراً قبل تفعيل السخرية والإمعان في الاستهزاء والانطلاق في نشر خطايا الآخرين والكشف عن خصوصياتهم.

قدمت مونيكا لوينسكي، السيدة التي تورطت في فضيحة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، حديثاً مميزاً من «أحاديث تيد» التي يمكن الاطلاع عليها كلها من خلال موقعهم الإلكتروني أو قناتهم على اليوتيوب، وبغض النظر عن موقف السيدة لوينسكي من حيث كونها المذنبة أو الضحية، فإنها تكلمت عن تجربتها لأنها قد تعايشت مع «صناعة العار» كما وصفتها، حيث إنها بقيت وسط زوبعة إعلامية حارقة للعشرين سنة الماضية، وجدت نفسها في مواجهتها لأول مرة وهي بعد في أوائل العشرينيات من عمرها.  

تجلت «صناعة العار» تلك في التعذيب النفسي الذي أنزله الإعلام والرأي العام والمجتمع بأكمله على لوينسكي بعد أن كُشفت قصتها مع الرئيس الأسبق، فقد نُعتت بأقبح الأوصاف وتناقلت الناس سيرتها لتصنع منها إنسانة ساقطة ولتنحر شخصيتها وتقضي على سمعتها ومستقبلها. في حديثها من خلال «تيد» وصفت لوينسكي ما يحدث في العالم عموماً من تداول سير الناس إعلامياً وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وهذا «العلك» المستمر لأخطائهم أو التجريح والشتم لهم، خصوصاً للشخصيات البارزة منهم، على أنه blood sport أو رياضة دموية، وهي الرياضة التي غالبا ما تنتهي بالموت النفسي وأحيانا الجسدي للطرف المهزوم.

تقول لوينسكي، بعد أن سردت شيئاً من قصتها الحزينة وعذاباتها الممتدة مع الفضيحة، إنه يمكن التغلب على العار الذي يلحق بالبعض، سواء بسبب أخطائهم أو انتشار معلومات أو صور خاصة عنهم، أو إلحاق قصص كاذبة بهم، عن طريق الـempathy أو التعاطف والتواصل الإنسانيين. لربما لن نستطيع في يوم أن نوقف هذه الرياضة الدموية وهذا التعطش الغريب للفضائح ونقلها وتداولها، ولربما سنفقد الكثير من البشر كضحايا انتحار أو انتقام أو قضايا شرف بسبب ما نتناقله إعلامياً وعبر وسائل التواصل الاجتماعي عن سيرهم، وما نلوكه من سمعتهم، وما نزيد عليه من قصصهم، إلا أننا يمكن أن نحصر الضرر لو أننا قدمنا التعاطف الإنساني على ما عداه، ولو أننا ذكرنا أنفسنا أن لكل منا سراً يخجل منه، وتصرفاً يخفيه، وضعفاً يكتمه، وأن كلاً منا عُرضة للفضيحة ويمكن «بضغطة زر» أن يكون ضحية لرياضة الدم هذه.

تدعو لوينسكي إلى ما أطلقت عليه click with compassion أي اضغط أزرار أجهزتك بالمحبة والشفقة، وقبل أن ترسل فضيحة غيرك، تذكر أن لك في الحياة ما تود أن تخفيه، وقبل أن تتشفى في سقوط غيرك، تذكر أننا جميعاً نقف على حافة سلم الحياة، هي دفعة صغيرة، ونتدحرج كما تدحرج غيرنا. تثني لوينسكي على حرية الرأي والتعبير لكنها تفرق بين speaking up with intention وspeaking up for attention، أي أن تتحدث بهدف أو أن تتحدث من أجل جذب الانتباه، فالنوع الأخير لطالما حطم مستقبل آخرين وقضى على سمعتهم، ولربما أنهى حياتهم بأكملها.

في الكويت، «تويتر» هو أداة نقل الأخبار الأقوى، ولكنها أداة نشر الشائعات الأقوى كذلك، فتطفو أحياناً حلقات تعذيب للآخرين على سطحه وغيره من وسائل التواصل عندنا، حيث تبدأ سلسلة استهزاء وسخرية بالمنكوب حتى يصبح مجرد الاطلاع على مجرياتها مؤلماً، فكيف بمعايشة أحداثها؟ بلا شك تبقى السخرية أداة والاستهزاء رأياً بل نشر للمعلومات إن كانت حقيقية، وهي حق للناشر إلا أنها أبغض الحريات، لأننا كبشر متحضرين لربما يجب أن نفكر كثيراً قبل تفعيل السخرية والإمعان في الاستهزاء والانطلاق في نشر خطايا الآخرين والكشف عن خصوصياتهم، ويجب أن يكون ما يدفعنا للتفكير والتردد والتوقف هو تعاطفنا الإنساني وتواصلنا الوجداني، وحقيقة أن ليس منا من يستطيع أن يقذف الآخرين بحجر لأنه ليس منا من يخلو من إثم، ولأننا جميعاً نسكن بيوتاً من زجاج.

«آخر شي»:

كم مرة سننعى قتلى الإرهاب؟ عظم الله أجرك شقيقتنا السعودية، حان الأوان أن تجلسي وشقيقاتك المحيطات بك فتتدبرن أمور أموالكن، وتبحثن أين تذهب دولارات البترول؟ وأين يذهب شباب البترول؟ ومن الذي صنع الحفرة التي يدفنون جميعاً فيها؟ والصراحة جميلة وأول العلاج الاعتراف بالخطأ.

اترك تعليقاً