تحميل إغلاق

المقشة

المقشة

في صفي الدراسي أجرب وسيلة، إثابة أو عقوبة تحفز طلبتي على تفادي الخطأ والاجتهاد في اتجاه التحصيل العلمي الصحيح. أعطي الوسيلة فرصة، إن ثبت نجاحها أستكمل تطبيقها وإن ثبت العكس أغيرها أو أعدل فيها. أفعل ذلك ليس لأنني عبقرية تدريسية ولكن لأن لدي منطقاً بسيطاً أقيس به الأمور، الناجح منها أستمر فيه والفاشل أتفاداه، ببساطة أدنى درجات المنطق. أذكر نفسي دوماً أنني لست وصية على هؤلاء الطلبة، يحكم بيني وبينهم الأداء والدرجات فيأتي الإجراء على قدر حجم علاقتي وصلاحياتي.

الحكومة ومشرعوها يدورون في الدائرة نفسها، “داخوا ودوخونا”، والحق يقال أصبح المنظر يثير الضحك والشفقة في نفس الوقت. علاقة الحكومة والمشرع بالمواطن ليست علاقة وصي بقاصر، ولكن علاقة بالغ ببالغ يحكم بينهما دستور وقانون، لا أحد أفضل من أحد، لا يعلو رئيس الوزراء الشرطي “بو شريطة” إلا بما ينص الدستور والقانون من صلاحيات وواجبات. لكن المنفذ والمشرع يأبيان إلا أن يكونا وصيين، يلاحقان القصَّر الملاعين في دائرة أشبه بتلك التي يدور فيها توم وجيري، فلا تملك إلا أن تضرب كفيك مكركراً بضحك بليغ.

آراء المسيئين للطوائف من ياسر حبيب إلى المغرد أبل إلى الكاتب المليفي وصولاً حتى إلى النواب، الذين هم في رأيي، أشد إساءة من كل الأسماء السابقة، تبقى آراء، سيئة ورخيصة وهزيلة وحمقاء، لكنها آراء، فسحب جنسية إنسان ونفي آخر وحبس ثالث سبع سنوات بسبب رأي، مهما بلغت وقاحته بل وكفره في نظر البعض، تلك إجراءات تنم عن وصاية متعنتة من المنفذ والمشرع على المواطن. العقوبة يجب أن تناسب طبيعة العلاقة، فلا المنفذ ولا المشرع أفضل تديناً ولا أرقى علماً ولا أعلى منزلة عند الخالق، على حد العلم البشري، لذا هذه العقوبات ترتفع عن كونها تنظيمية، كما يجب أن تكون، إلى قهرية وصائية، كما لا يجب أن تكون في الدولة المدنية.

ولكن ها هي العقوبات أطلقت ونفذت، فهل أتت بمردود؟ هل توقفت الإساءات المذهبية؟ تبدو الإساءات في ازدياد في الواقع، بل وأصبح هذا الواقع مضحكاً. أصبح بإمكان أي أحد أن يتسبب في استنفار الحكومة واستفزاز النواب بكلمتين حمقاوين على “تويتر”. الوضع أصبح مضحكاً فعلاً، يذكر بمشاهد جيري الفأر الشيطان وهو “ينغز” جسد توم القط المتهور الذاهل بإبرة ويفر جارياً ضاحكاً ليستشيط توم غضباً لاحقاً بالفأر بـ”مقشة” كبيرة لا تصيب من جسده الصغير شيئاً لتنتهي صافعة بقشها الخشن وجه توم المسكين. ردات الفعل الحكومية والنيابية لا تتسبب إلا في فتح شهية المجانين وتشجيع المشاكسين لينثروا رخص كلماتهم، تاركين الحكومة والنواب في لجة بحث واعتصام واستجواب، مباعدين بينهم وبين القضايا الحقيقية والإصلاح المستعجل المطلوب.

إن الازدراء والشتم والتكفير والادعاء والكذب، كلها يمكن أن توضع في قوالب رأي، وتلك يجب أن تقنن محاربتها ولكن بشرط، أولاً، أن تطبق العقوبة تجاه المسيئين للأديان كافة وليس للدين الإسلامي وحده، وثانياً أن تكون العقوبة على قدر الخطأ ومتناسبة مع سلطة المنفذ والمشرع على المواطن. فعقوبة الرأي المقصود منها حماية المواطنين من تعدي بعضهم على بعض لفظاً وليس من شأنها تأكيد جانبي الحق والباطل في النقطة موضوع الخلاف ولا إعلاء صوت على آخر. لذا، لتكن عقوبة الرأي تغريم مبالغ كبيرة موجعة، أو لتكن خدمة مجتمعية عامة طويلة، أما النفي والحبس وسحب الجنسية، فتلك لا يجب أن تكون من سلطة المنفذ أو المشرع على المواطن، ليس على مواطن الدولة الديمقراطية المدنية الحقة بأي حال.

وأخيراً، تريدون إيقاف التراشق الطائفي فعلياً؟ المسألة تحتاج إلى وقت وصبر، تحتاج إلى إعادة صياغة عقول وتأهيل مجتمع وتهدئة قلوب وخواطر. فهل من المتوقع أن يخرج صاحب الرأي المهين الطائفي من سجنه وقد غير رأيه مثلاً أو اتعظ أو تشرّب مفهوم التسامح الديني؟ أم هل المتوقع أن يخرج أكثر غضباً وغيظاً وكرهاً للمذهب الآخر؟ وهل المتوقع لأصحابه وأتباع فكره أن يتعظوا مما حصل لصاحبهم أم أن ينظروا إلى الموضوع على أنه جهاد قلب ولسان عليهم أن يستمروا فيه ولو كلفهم حياة خلف القضبان؟ النهج الحالي يخلق جهاديي فكر متطرفين، ويعمق فجوة الخلاف ويوسع المسافات بين أصحاب المذهبين، والأسوأ، أنه أصبح أداة تسلية لمن لا عمل له، يلقي بشتيمته ويفر راكضاً، تاركاً “المقشة” لترتد في وجهنا جميعاً.

اترك تعليقاً