تحميل إغلاق

اعتذار

أقفال الحب في فرانكفورت

اعتذار

“أمانة عليك يا ليل طول، وهات لي العمر من الأول”

لكلمات أغنية كارم محمود هذه قصة حدثت معي في ليلة رأس السنة، وددت أن أسردها على قراء الحرة اعتذارا منهم عن جمود مقالي السابق الذي تصادف وأول أيام السنة الجديدة، والذي نسيت فيه، لشدة حماسي لموضوع المقال، حتى أن أهنئهم وأتمنى لهم سنة مقبلة حافلة بالحب والرضا والسعادة.

تأخذنا الحياة بجديتها وجمودها وتسارعها إلى أماكن جافة أحيانا، ننسى فيها أرواحنا وقلوبنا، ونقسو من زواياها حتى على مشاعرنا، فنعتقد الحب والأشواق والحنين ليسوا من الأهمية بمكان ليحتلوا عمود صحيفة، وهل لنا أن نكون أكثر بعدا عن الحقيقة؟

كنت أنظر إليه بطرف عيني، هذا الرجل الجالس على طرف الأريكة يبتسم بهدوء، يرفع سيجارة بين الدقيقة والأخرى لطرف فمه، ينفثها دخانا يذكرني بتطاير السنوات، فأدندن لقلبي “هات لي العمر من الأول”.

لا أدري لم كلما فكرت في هذا الرجل، خطرت لي دشاديشه البيضاء معلقة بانتظام في دولابه، انتظام أحرص أنا عليه أكثر من أي شيء آخر، فتجدني أصفف الدشاديش طبقا لدرجة بياضها، أعقف الأكمام لتتدرج فوق بعضها البعض حتى إذا ما فتح هو الدولاب وجد منظرا مصففا متدرج الألوان، منظر يذكره بوجودي في تفاصيل حياته، حتى في دولابه وبين دشاديشه.

هي ليلة رأس السنة، ونحن بين الأهل والأحبة، وأنا أردد “أمانة عليك يا ليل طول” فهذه الحياة قصيرة على وجوده، لا يمكنها أن تحتويه أو تعرفه كله.

مع هذا الرجل عشت حياة كاملة في الشمس، كل شيء في حياتنا كان ولا يزال واضحا، حقيقيا، متوائما مع ما نعتقد ونريد. وحين تكون الحياة طبيعية وحقيقية، تصبح عميقة، مستقرة، خالية، إلى حد كبير، من التظاهر والتمثيل المرهقين.

كلما حرك معصمه، ظهرت لي صورة جديدة
كلما حرك معصمه، ظهرت لي صورة جديدة

​في حبنا، الذي يضحك منه الأولاد ويعتبرونه مراهقة متأخرة أو كوميديا أسرية، نحن واضحان، أنا أعبر عنه صدحا وهو يعبر عنه هدوءا. أصرح دائما، وعن صدق، أنني أحبه أكثر من الأولاد، يغضبون أحيانا ويتهمونني بسقوط كثير من مبادئي النسوية عند أطراف أصابع والدهم. كم هم سذج هؤلاء الصغار الذين لا يعرفون سر القوة والإصرار والاستمرار.

حين يبدي هو محبته الجارفة لصغيرة العائلة، تنتابني غيرة حقيقية، تظهر على ملامحي وترددها أطراف جسدي، فيضحك الصغار وأباهم على هذه السيدة الأربعينية المتصابية المشاعر، وأواسي أنا نفسي أن حبه الجارف لهذه الصغيرة لا بد وأنه حب مضاعف لي، فأنا التي قدمتها له على كل الأحوال. أكذب على نفسي أو لا أكذب، غير مهم، غير مهم من يحب هو أكثر، أنا أعلم أنني أحبه أكثر، وهذا هو سري المعلن أبدا ودائما.

حين أهديته ساعة “آبل” الجديدة، ملأ وجهها بصوري، كلما حرك معصمه، ظهرت لي صورة جديدة. تطاير فرح طفولي في عيني لأستدعي الأولاد، وخصوصا منافستي الصغيرة، لأريهم كيف أن والدهم يضع صوري على معصمه. لا يهم أنهم ضحكوا، لا يهم أن والدهم أخفى ابتسامة محبة ساخرة، المهم أن هذه الساعة على يده، تحملني بجانب دقائق يومه.

هكذا هو هذا الرجل، يعلننا جميعا في حياته، بصورنا وتحركاتنا وحكايانا التي يسردها دون أن يخشى لومة مجتمع خليجي محافظ، فتراني والأولاد نملأ مواقع تواصله الاجتماعي، ندخل في كل حكاياه، نصحبه في كل تحركاته بأصواتنا وصورنا، وأخيرا أنا، وحدي أنا على معصمه، كلما حركه قليلا، ظهرت أنا بصورة جديدة في لحظة ما من عمرنا، لتثبتني نصفه الذي لا يكتمل دونه والذي هو دوما أفضل بوجوده.

“أمانة عليك يا ليل طول” واترك لي هذا الرجل؛ اتركه حتى وهو يحب صغيرته فوق كل حب، حتى وهو يتقاسمه أحبته من كل حدب وصوب، اتركه لي ليغفر لي دائما ما لا يغفره الآخرون، ليسند قلبي أبدا ودون أدنى تساؤل أو لوم حين يحاسبه ويلومه اللائمون، ليتقبل غيرتي من صغيرتنا، ليتحمل إقحامي لكل شأن أعمل فيه في حياتنا، اتركه ليكون آخر ما أرى ما في هذه الحياة، ليكون هو خاتمتي، قبل أن أعود غبار نجم يسبح في عدم كبير بارد لا ينتهي.

وقبل أن ينتهي الليل وتقلب حيواتنا الصفحة، أقول لكم، أحبوا وأخبروا من تحبون، قولوا لهم عن تفاصيل الحياة التي تتذكرونهم من خلالها، هي كل ما نمتلك في هذه الحياة الغريبة العدمية. الرجل القوي الواثق من نفسه، أخبركم سرا نكتمه نحن النساء، هذا الذي لا يظهر غيرة مرضية أو تسلطا مهزوز الشخصية، هو الأكثر جاذبية للنساء وحوزا على احترامهن. والمرأة القوية الواثقة من نفسها، أشرككن معي سيداتي، هي التي توجه حبها لمن يستحقها ويحترم إنسانيتها والتي لا تخفي محبتها ولا تستحي التصريح لنصفها الآخر، هي الأكثر ارضاء لنفسها وسعادة في حياتها.

سينتهي الليل الجميل وينبلج عن نهار آخر لبشر آخرين، ستنقلب الصفحة ذات يوم، وحتى ذاك اليوم، سأبقى أحب وأصرح وأغار من صغيرتي وأتمنى بقائي على معصمه إلى آخر لحظاتي في الحياة.

اترك تعليقاً