تحميل إغلاق

أنا حرة؟

معجبون بالمغنية الإنكليزية كايت بوش يرقصون في سيدني

أنا حرة؟

خذني.. فإني أحب الحياة.. وأعشق في الليل ضوء القمر..

أراك ترتعش مني الشفاه

ويهتز قلبي ويصحو الشجر

وأطلق خيالك حتى مداه

وداعا كخوفي وهذا الحذر

ففوق حصانك طوق النجاة

كفارس أحلامي المنتظر

أذوب بكفيك كثلج الجبال

وأسقط في صدرك كالمطر

أنا حرة وحبي صريح

وحبك لي من السماء انحدر

لنا كل هذا الكون الفسيح

وحريتي في حبك قدر

فحبي إليك حريتي

فإذا ملكت الحب

الحب انتحر

هكذا غنت “كارمن” لحبيبها في مسرحية محمد صبحي المأخوذة عن الأوبرا العالمية “كارمن”، بألحان عمر خيرت وكلمات محمد بغدادي.

تصف هذه الكلمات، في رأيي، الحب الحقيقي الحي، حب يطلق الخيال، يودع الخوف، يذيب القلب، يغسل الصدر، يحرر الإنسان من القيود، كل القيود. كنت قد قرأت مقالا منذ زمن عن الفشل المزمن القدري لعلاقات الحب لأنها دوما ما تأتي مصحوبة بالقيود وبالمسؤوليات، فكما يؤكد المقال، لا وجود لحرية مطلقة في علاقة الحب. الحب يعني قيد، يعني أن ترتبط حياتك بآخر، أن ترتبط قراراتك بقراراته.

وعليه مهما حاول الطرفين تحرير بعضهما البعض، ستفرض الحياة وطبيعة العلاقة قيودها، أقلها مثلا قيد الالتزام بأحادية العلاقة. فأن تلزم شريكك بالالتزام الحسي بك، أليس هذا قيد على الحرية؟ أدرك طبعا أن المثال متطرف، ولكنه أتى في المقال الذي لا أتذكر عنوانه، مع الأسف، في سياق إظهار استحالة تحقق الحرية التامة التي لا تتعدى أن تكون أكذوبة كبيرة في أي علاقة حب.

أفكر كثيرا في هذا المنطق، أقيسه على حياتي: هل أمتلك الحرية الكافية في حياتي؟ هل أوفرها لشريكي في حياته؟ في العموم، الحرية المطلقة وهم نبيل ورغبة إنسانية خيالية مثلها مثل الرغبة في الخلود؛ سيبقى الإنسان يسعى إليها رغم معرفته باستحالة تحققها (على الأقل في الوقت الحاضر بالنسبة للخلود، حيث تشير بعض الدراسات “المتطرفة” علميا إلى انتهاء موت البشر بعد جيلين أو ثلاثة من جيلنا الحالي).

تقول النظرية الطبيعية naturalism والمتأثرة بالنظرية الداروينية، أننا في الواقع لسنا سوى نتاج تركيباتنا الجينية، بيئاتنا، وضربات الحظ في حيواتنا التي ليس لنا عليها أي تأثير. نحن عديمو الإرادة تماما، مسيرون بتركيباتنا الجينية وبيئاتنا الاجتماعية، وكل محاولات الخروج من “جلودنا” الاجتماعية والطبائعية والفكرية إلى حيث الحرية الحقيقية ما هي إلا محاولات سطحية طفيفة لم تذيقنا، حتى أكثرها جدية، الطعم الحقيقي العميق للحرية.

تؤرقني هذه الفكرة جدا في حياتي وأنا حبيسة جسد تشكل بجينات لم أخترها، حبيسة طبيعة نفسية وفكرية واجتماعية لمجتمع طرأت عليه ولم أصنعه، حبيسة فكرة امتلاكي لشريكي ورهينة الإيمان بالالتزامات والمسؤوليات التي تفرضها مؤسسة العلاقة، مؤسسة لم يراجعها معظمنا حقيقة في يوم، ولم نسبر غورها أو نمنطق شروطها، نعيشها ونتمسك بها ونؤمن بها دون تقييم حقيقي لعقلانية شروطها وتوقعاتها.

أحاول دوما الخروج من هذه الفكرة المؤلمة المزمنة، أذكر نفسي بإيماني التام أن الحب الحقيقي هو حب تحرري وتحريري، أن الارتباط العاطفي لا يحتمل القيود، فكيف يكون الحب حبا إذا كان مشروطا، وكيف تكون العاطفة عاطفة إذا كان استمرارها مرهون بالقيام بالواجبات وتلبية المسؤوليات؟

في غالب الأحيان، لا تمتلك المرأة الكثير من السلطة التكبيلية على الرجل وإن كانت توقعاتها تجاه حبيبها قيود، الواقع الأغلب هو تكبيل الرجل للمرأة بقيود الأعراف والعادات والتقاليد والقراءات الدينية، فهو المالك الحقيقي لشريكته في العلاقة التقليدية، ولا يوجد ما يقتل العاطفة ويسمم الحب مثل هذه القيود.

منذ البداية ما استطعت تحمل أي قيد في علاقتنا، لربما فقت زوجي تمسكا بحريتي، ومنذ البداية علم هو بعلتي، فأطلقني مدعوما بثقته المستفزة أنني لن أذهب بعيدا أبدا. اتفقنا أننا فردين منفصلين، وتعاملنا مع المشتركات بأكبر قدر من الفهم المتحرر.

كلما واتتني رغبتي في التحرك، أفسح هو الطريق، متغاضيا عن الحدود والخطوط كأنها لا تعنيه، لا ترسم أو تحدد شيئا في علاقتنا. جلبت له الكثير من المتاعب في حياته، اختلفت معه وأقلقته وأصررت وتراجعت، وهو يقف متفهما، مساندا، قلقا بود، ناصحا بيسر، والأهم حاميا بكل قواه، اتفق أو اختلف.

حاولت أن أكون مثله تجاهه فما استطعت. سألت نفسي لأي الحدود يمكنني أن أذهب في تحريره من تقاليد العلاقة، فما عرفت. أود امتلاكه وحمايته وأغضب من اختلافه وأتمنى اتساق أفكاره مع أفكاري طوال الوقت. أسائل نفسي دوما من أين له هذه القوة ولماذا؟ هو رجل في مجتمع يميل بكل وزنه تجاهه، فمن أين له كل هذا الإيمان بالحرية والأريحية في التطبيق؟

بعد حين فهمت. فهمت بعد أن فات الوقت، كانت كلها خطة طويلة الأمد، غسيل مخ، تمرين مريب. من يطلقك تعود دوما إليه. من يتفهمك ويحررك من عبء إرضائه تصبح أمنية حياتك رضاه وتمسي أهم غاياتك نظرة قبول من عينيه. إنها خدعة العمر، لقد كبلني هذا الرجل بقيود لا أراها ولا أعرف كيف أتعامل معها. قيود زرعها بصبر عميقا في قلبي. حبال توق لرضاه ومباركته تلتف على عنق كل فعل آتيه حتى بت حقيقة لا مجازا، مربوطة بنظرة موافقته، متوقفة على نبرة المباركة في صوته.

إنها مهزلة حياتي، أنني، بكل ما أدعيه من تقديس للحرية ومن استحالة العيش دونها، من أنها أهم قيمة في حياتي وأهم شرط لأي علاقة تربطني بأي إنسان، أقع هكذا في حفرة حفرتها لنفسي، ضحية خدعة طويلة الأمد جيدة الترتيب أبدية النتائج، فكيف لي الآن أن أحرر قلبي ومشاعري وتوقي لمحبته ورضاه؟ كيف أتخلص من قيود خفية لا أعرف متى وكيف تسللت إلى أعماقي؟

كل هذا الزمن، كل هذه السنوات، كل محاولة للتحرر ما كانت سوى غوص أعمق في قيود عواطف لا فكاك منها. بخلاف الكلام عن الجنسانية والحقوق، يخطئ الرجال حين يوظفون أنفسهم سجانين على نسائهم والنساء على رجالهن. ليس هو القيد الحديدي ولا القفص السميك الذين سيبقيان حبيبك في مكانه، إنها فقط فكرة، لو استطعت زرعها في نفسه، ستتحكم به عن بعد، ستربطه كل دقيقة وكل لحظة وكل ثانية من حياته، ستمتلكه بها للأبد، بلا حبال ولا قيود ولا حروب. كم أنا ساذجة، أنا اللاهثة خلف الحرية، أنا أكبر سجينة في هذا العالم.

 

اترك تعليقاً