تحميل إغلاق

عشق وأزمة

عشق وأزمة

كان هذا أسبوعا غريبا، صعبا، تغيرت فيه أشياء كثيرة، وتغيرت أنا فيه كثيرا. تغيرت أشياء ما كنت أود لها أن تتغير، وبقيت أشياء تعاند في داخلي كنت أتمنى لها لو أنها تبدلت أو اختفت. كنت كثيرة الأمل وكثيرة الألم، اختفت الآمال وبقيت الآلام، كنت أفضل الرضا وأنفر من الفراق، أصبح الرضا عزيز والفراق ضيف ثقيل، كنت أؤمن بالخير، بالوصل والتواصل، أصبحت أعتقد بالجفاء، بالبعد والمسافة. كنت أعتقد بالقلب المفتوح واليد الممدودة بالمساعدة، أصبحت أؤمن بالعلبة الحديد، تضع قلبك فيها وقاية خير من علاج، تحميه من كلمة تكسره أو سوء ظن يدميه. شيئا ما تغير في روحي هذا الأسبوع، علّه أسبوع منفصل في حياتي، يمر مرور اللئام.

تعلمنا الدنيا القسوة، تدربنا على الفقد والقطيعة وسوء الظن، وكلما اتقد الأمل في قلوبنا بأن هذا عارض ويمر، يلحقه عارض يليه، يضغط موقع الألم وينخر مكان الجرح. تتحالف الآلام الخاصة بالآلام العامة، فتتوه الروح في غربة، غربة وقسوة غير مبررة، لأحداث لا أسباب لها. أغرق في همي، لأنني بشر أناني بتركيبي الجيني، فتأتي اتصالات تذكرني بصغر همومي وعظم أنانيتي وسخافة أحزاني، اتصالات من صغار في عمر الزهور، من خريجين فائقين بنسب تتعدى 90 في المئة غير قادرين على الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي لأسباب وأسباب، منها ضيق ذات اليد، ومنها عدم توافر كراسي دراسية، وأقساها انعدام الجنسية والإجراءات المترتبة على هذا “العدم”.

يصلك صوت رفيع على التلفون، “ألو” مترددة، خائفة، يليها “أرجوك ساعديني” مترجرجة بالبكاء، ثم نحيب طويل. عادة أصمت أنا بعض الشيء مستمعة للبكاء المتقطع، كأنه “أكابيلا” حفظتها عن ظهر قلب. أحيانا أبكي مع الصغيرة المتصلة همي وهمها، وكأنني أستغل ألمها لأنفس عن نفسي، وأحيانا تجوب نفسي نوبة غضب، فأنتظر فسحة هدوء بين آهات النحيب لأخبر الصغيرة أن هذا ليس وقت ضعف، أن البكاء لا يفيد، أنني لا أود أن أسمع تخاذل وأنني أصر على أن أستشعر الأمل في الصوت والكلمات. أقول بقوة تصل حد القسوة، أطالب بتحمل وصلابة يفوقان بكثير عمر المتصلة وخبرتها وتجربتها، لكنني أصر، أستمر، أعمق صوتي وأهبط به لأثقل طبقاته لأوحي للمستمعة الصغيرة بجديتي وصرامتي، ألزمها بالهدوء، أفرض عليها التفكير العملي، الدنيا لن تشفق، لن تنتظر، ليس لدينا وقت للشعور بالشفقة على الذات.

كلما زاد الألم في صوتها، كلما تعمق صوتي الذي أطعمه عمدا بكل ما لدي من صلابة وإصرار. تنتهي المكالمة وقد تماسكت هي؛ رنة بهجة فتية تلوح في صوتها تذكرني برنة صوت ابنتي التي لا تعرف من مشاق الحياة شيئا، تنتهي المكالمة وقد التفت شعرات طويلة سوداء على أصابعي، لا أدرى إن كانت قد تشابكت وأصابعي بهدوء بعد أن مررت بكف يدي في شعري أم أنني انتزعتها انتزاعا أثناء المكالمة.

أسمح لنفسي بالنحيب بعد كل مكالمة من هذه المكالمات، أبكي ألم الصغيرة وأملها، أبكي صرامتي التي نخرت روحي وأنا أدعيها، وأبكي قلة حيلتي. تتداخل الآلام، فلا أعود أعرف ما الذي يعرقل دماء شرايين قلبي في التو واللحظة، ألمي الخاص، مكالمة الصغيرة، أم ما عاد هناك فرق؟

في عمري وأنا أقبل حثيثا على الخمسين، ما عادت قسوة الدنيا مستغربة، وربما غير مهمة. متوقع أن تقسو الدنيا وأن تتراكم الآلام وأن تنفر وينفر منك آخرون، أليس هذا هو قانون الحياة؟ أليس امتداد العمر الذي نتمناه ونسعى له بكافة الطرق ما هو سوى مخزن لتراكم الأحداث والمواقف الموجعة والكلمات التي تصيب كما السهام في القلب؟

ولكن، ماذا عن هؤلاء الصغار، للتو يبدؤون الحياة، للتو يترجون الأمل، لا يزالون يعتقدون برحمة الأقدار وعدالة الدنيا، لا يزالون يرون هذه الدرجة من اللون الوردي الذي ما عادت أعيننا نحن الكبار تلتقطها؟ كيف تواسي هؤلاء الفائرين بالآمال والأحلام والصور والتصورات والخطط والمخططات؟ كيف تريهم قفا الصورة، حيث الوردي يصبح رماديا، والشفافية تنقلب إلى عتمة داكنة؟ هل يحق لك أن تفعل أصلا؟ كيف تحولهم من صغار منطلقين بأحلام الثامنة عشرة إلى عجائز متسلحين بالقوة والتجربة وصلابة الروح لتجاوز الأزمة التي لا يمكن تجاوزها؟ كيف تصارحهم بأن زمن الأزمة الممتدة في الواقع للتو قد بدأ، من الدراسة إلى التخرج إلى البحث عن وظيفة إلى اليأس طلبا للهجرة؟

آه من عالمنا الغريب من الخليج إلى المحيط، هويته عشق وأزمة، فما البال بمن لا يملك ورقة أصلا تدلل على هويته؟ كيف هي روح ونفس وحياة هؤلاء، في كل عالمنا العربي، الواقعين في الفتحات المظلمة من “نسيج” المجتمع (كم أكره كلمة نسيج هذه)، الواقفين بالكاد متوازنين على فوهة الهاوية، الغرباء في بلدانهم، المنتمين إلى غرباتهم أبد الدهر؟

لا أعرف كيف أكتب غير ما أفكر وما أشعر، ولا أفكر الليلة سوى في آلام الأسابيع الماضية، آلام شخصية، آلام عامة، وجع كلمة، ألم اتصال، بكاء صغيرة، رسالة صغير، بقايا كل الكلام القاس، ذيول كل الآلام المستمرة والآمال المنحورة، كل شيء اختلط ببعضه، كل البقايا تكومت صانعة كرة منخورة صلدة أستشعرها تربض في قفصي الصدري، تسد عليّ منافذ المشاعر، فلا يصلني منها سوى الغضب والألم والحزن.

ربما تنتهي هذه الأسابيع، وتعود أشعة السعادة تخترق الستائر الداكنة المسدلة على قلبي هذه الأيام، لكن، هل ستجد أشعة الأمل والسعادة طريقها لقلوب هؤلاء الصغار، عديمي الهوية، عديمي الأمل، يحيون بالألم من الخليج إلى المحيط؟

اترك تعليقاً